كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ومثله قوله تعالى في قصة سبإ: {وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [سبأ: 19]. وهذا كما تقول: أن في ذلك لآية لكل موحّد مصلّ، ولكلّ فاصل تقيّ. وإنما تريد المسلمين.
وقوله: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ} [الحديد: 20] فإنما يريد بالكفار هاهنا:
الزّرّاع، واحدهم كافر. وإنما سمّي كافرا لأنه إذا ألقى البذر في الأرض كفره، أي غطّاه، وكل شيء، غطّيته فقد كفرته، ومنه قيل: تكفّر فلان في السّلاح: إذا تغطّى.
ومنه قيل للّيل كافر، لأنه يستر بظلمته كل شيء.
ومنه قول الشاعر:
يعلو طريقة متنها متواترا ** في ليلة كفر النّجوم غمامها

أي غطاها. وهذا مثل قوله تعالى: {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح: 29].
وأما قوله: {خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ} [هود: 107]، فإن للعرب في معنى (الأبد) ألفاظا يستعملونها في كلامهم، يقولون: لا أفعل ذلك ما اختلف الليل والنهار، وما طمى البحر، أي ارتفع، وما أقام الجبل، وما دامت السموات والأرض، في أشباه لهذا كثيرة، يريدون لا أفعله أبدا، لأن هذه المعاني عندهم لا تتغير عن أحوالها أبدا، فخاطبهم اللّه بما يستعملونه فقال: {خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ} أي مقدار دوامهما، وذلك مدة العالم. وللسماء وللأرض وقت يتغيّران فيه عن هيئتهما، يقول اللّه تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ} [إبراهيم: 48]، ويقول: {يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} [الأنبياء: 104].
أراد أنهم خالدون فيها مدة العالم، سوى ما شاء اللّه أن يزيدهم من الخلود على مدة العالم. ثم قال: {عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 108] أي غير مقطوع.
و(إلّا) في هذا الموضع بمعنى (سوى) ومثله من الكلام: لأسكننّ في هذه الدار حولا إلا ما شئت. تريد سوى ما شئت أن أزيد على الحول.
هذا وجه. وفيه (قول آخر)، وهو: أن يجعل دوام السماء والأرض بمعنى الأبد، على ما تعرف العرب وتستعمل، وإن كانتا قد تتغيّران، وتستثنى المشيئة من دوامهما، لأن أهل الجنة وأهل النار قد كانوا في وقت من أوقات دوام السماء والأرض في الدنيا لا في الجنة، فكأنه قال: خالدين في الجنة وخالدين في النار دوام السماء والأرض، إلا ما شاء ربك من تعميرهم في الدنيا قبل ذلك.
وفيه (وجه ثالث): وهو أن يكون الاستثناء من الخلود مكث أهل الذنوب من المسلمين في النار حتى تلحقهم رحمة اللّه، وشفاعة رسوله، فيخرجوا منها إلى الجنة.
فكأنه قال سبحانه: خالدين في النار ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك من إخراج المذنبين من المسلمين إلى الجنة، وخالدين في الجنة ما دامت السموات والأرض، إلا ما شاء ربك من إدخال المذنبين النار مدة من المدد، ثم يصيرون إلى الجنة.
وأما قوله: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى} [الدخان: 56]، فإن (إلّا) في هذا الموضع أيضا بمعنى (سوى). ومثله: {وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22] يريد سوى ما سلف في الجاهلية قبل النهي.
وإنما استثنى الموتة الأولى وهي في الدنيا، لأن السّعداء حين يموتون يصيرون بما شاء اللّه من لطفه وقدرته، إلى أسباب من أسباب الجنة، ويتفاضلون أيضا في تلك الأسباب على قدر منازلهم عند اللّه: فمنهم من يلقّى بالرّوح والرّيحان، ومنهم من يفتح له باب إلى الجنة، ومنهم الشهداء أرواحهم في حواصل طير خضر تعلق في الجنة. أي تأكل، قال الشاعر:
إن تدن من فنن الألاءة تعلق

وجعفر بن أبي طالب ذو الجناحين يطير مع الملائكة في الجنة.
واللّه يقول: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتًا بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)} [آل عمران: 169].
أفما ترى أنهم عندنا موتى وهم في الجنة متّصلون بأسبابها؟ فكيف لا يجوز أن يستثنى من مكثهم فيها الموتة الأولى؟.
وأما قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (96)} [مريم: 96]، فإنه ليس على تأوّلهم، وإنما أراد أنه يجعل لهم في قلوب العباد محبّة.
فأنت ترى المخلص المجتهد محبّبا إلى البرّ والفاجر، مهيبا مذكورا بالجميل. ونحوه قول اللّه سبحانه في قصة موسى صلى الله عليه وسلم: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} [طه: 39]، ولم يرد في هذا الموضع أني أحببتك، وإن كان يحبه، وإنما أراد أنه حبّبه إلى القلوب، وقرّبه من النفوس، فكان ذلك سببا لنجاته من فرعون، حتى استحياه في السّنة التي كان يقتل فيها الولدان.
وأما قوله: {وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتًا (9)} [النبأ: 9]، فليس السّبات هاهنا: النوم، فيكون معناه: وجعلنا نومكم نوما. ولكن السّبات الراحة: أي جعلنا النوم راحة لأبدانكم. ومنه قيل: يوم السبت، لأن الخلق اجتمع في يوم الجمعة، وكان الفراغ منه يوم السبت، فقيل لبني إسرائيل: استريحوا في هذا اليوم، ولا تعملوا شيئا، فسمّي يوم السبت، أي يوم الراحة. وأصل السبت: التّمدّد، ومن تمدّد استراح. ومنه قيل: رجل مسبوت، ويقال: سبتت المرأة شعرها: إذا نقضته من العقص وأرسلته. قال أبو وجزة السّعدي:
وإن سبّتته مال جثلا كأنّه ** سدى وأثلاث من نواسج خثعما

ثم قد يسمى النوم سباتا، لأنه بالتمدّد يكون. ومثل هذا كثير، وستراه في (باب المجاز) إن شاء اللّه.
وأما قوله: {وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (15) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ} [الإنسان:15، 16]، فقد أعلمتك أن كل ما في الجنة من آلتها وسررها وفرشها وأكوابها- مخالف لما في الدنيا من صنعة العباد، وإنما دلّنا اللّه بما أراناه من هذا الحاضر على ما عنده من الغائب. وقال ابن عباس: ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء. والأكواب: كيزان لا عرى لها، وهي في الدنيا قد تكون من فضة، وتكون من قوارير.
فأعلمنا أن هناك أكوابا لها بياض الفضّة وصفاء القوارير، وهذا على التشبيه، أراد قوارير كأنها من فضة، كما تقول: أتانا بشراب من نور، أي كأنه نور.
وقال قتادة في قول اللّه عز وجل: {كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (58)} [الرحمن: 58] أي لهنّ صفاء الياقوت وبياض المرجان.
وأما قوله: {حِجارَةً مِنْ طِينٍ} [الذاريات: 33]، فإن ابن عباس، رضي اللّه عنه، ذكر أنها آجرّ. والآجرّ: حجارة الطين، لأنه في صلابة الحجارة.
وقرأت في التّوراة بعد ذكر أنساب ولد نوح صلى الله عليه وسلم: أنهم تفرّقوا في كل أرض، وكانت الأرض لسانا واحدا، فلما ارتحلوا من المشرق وجدوا بقعة في الأرض اسمها (سعير) فحلّوا بها، ثم جعل الرجل منهم يقول لصاحبه: هلمّ فلنلبّن لبنا فنحرّقه بالنار فيكون اللّبن حجارة، ونبني مجدلا رأسه في السماء.
وذكر بعض من رأى هذه الحجارة أنها حمر مختّمة. وقال آخرون: مخطّطة، وذلك تسويمها، ولهذا ذهب قوم في تفسير (سجّيل) إلى سنك وكل. أي حجر وطين.
وأما قوله: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ} [يونس: 94]، فإن المخاطبة لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم، والمراد غيره من الشّكاك، لأن القرآن نزل عليه بمذاهب العرب كلّها، وهم قد يخاطبون الرجل بالشيء ويريدون غيره.
والجواب عن هذا مستقصى في (باب الكناية والتعريض) فكرهت إعادته في هذا الموضع.
وأما قوله: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 62]، فإن الناس يختلفون في مطاعمهم: فمنهم من يأكل الوجبة، ومنهم من عادته الغداء والعشاء، ومنهم من يزيد عليهما، ومنهم من يأكل متى وجد لغير وقت ولا عدد. فأعدل هذه الأحوال للطّاعم وأنفعها، وأبعدها من البشم والطّوى على العموم- الغداء والعشاء. والعرب تكره الوجبة، وتستحبّ العشاء، وتقول: ترك العشاء مهرمة، وترك العشاء يذهب بلحم الكاذة.
وقد بيّنت معناهم في هذا القول في كتاب (غريب الحديث).
ونحن لا نعرف دهرا لا يختلف له وقت، ولا يرى فيه ظلام ولا شمس، فأراد اللّه جل وعز أن يعرّفنا من حيث نفهم ونعلم، أحوال أهل الجنة في مأكلهم، واعتدال أوقات مطاعمهم، فضرب لنا البكرة والعشيّ مثلا، إذ كانا يدلّان على العشاء والغداء.
وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، أنه قال: كانت العرب إذا أصاب أحدهم الغداء والعشاء أعجبه ذلك. فأخبرهم اللّه تبارك وتعالى أن لهم في الجنة هذه الحال التي تعجبهم في الدنيا.
وأما قوله: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا} [غافر: 46]، فإنه لم يرد أن ذلك يكون في الآخرة، وإنما أراد أنهم يعرضون عليها بعد مماتهم في القبور.
وهذا شاهد من كتاب اللّه لعذاب القبر، يدلّك على ذلك قوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ} [غافر: 46] فهم في البرزخ يعرضون على النار غدوّا وعشيّا، وفي القيامة يدخلون أشد العذاب.
وأما قوله: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} [الرعد: 35]، ولم يأت بالشيء الذي جعل له الجنة مثلا- فإن أصل المثل ما ذهبوا إليه من معنى المثل، تقول: هذا مثل الشيء ومثله، كما تقول: هذا شبه الشيء وشبهه.
ثم قد يصير المثل بمعنى الشيء وصفته، وكذلك المثال والتّمثال، يقال للمرأة الرّائقة: كأنها مثال، وكأنها تمثال، أي صورة، كما يقال: كأنها دمية، أي صورة، وإنما هي مثل، وقد مثّلت لك كذا، أي صوّرته ووصفته.
فأراد اللّه بقوله: {مَثَلُ الْجَنَّةِ}، أي صورتها وصفتها.
وروي أن عليّا رحمه اللّه كان يقرأ: {مثال الجنة} أو {أمثال الجنة}، وهو بمنزلة مثل، إلا أنه أوضح وأقرب في أفهام الناس إلى المعنى الذي تأوّلناه في مثل.
ونحوه قوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانًا سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ثم قال ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ} [الفتح: 29] أي ذلك وصفهم، لأنه لم يضرب لهم مثلا في أوّل الكلام، فيقول: {ذلِكَ مَثَلُهُمْ} وإنما وصفهم وحلّاهم، ثم قال: ذلِكَ {مَثَلُهُمْ} أي وصفهم.
وقوله: {يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ثم قال إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج: 73]، ولم يأت بالمثل، لأن في الكلام معناه، كأنه قال: يا أيها الناس، مثلكم مثل من عبد آلهة اجتمعت لأن تخلق ذبابا لم تقدر عليه، وسلبها الذباب شيئا فلم تستنقذه منه.
ومثل هذا في القرآن وكلام العرب أشياء قد اقتصصناها في (أبواب المجاز).
وأما قوله: {وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (40)} [الرعد: 40]. فإنه لم يرد أن عليك البلاغ بعد الوفاة كما ظنّوا، وإنما أراد:
إن أريناك بعض الذي نعدهم في حياتك، أو توفيناك قبل أن نريك ذلك- فليس عليك إلا أن تبلّغ، وعلينا أن نجازي.
ومثل هذا: رجل بعثته واليا وقلت له: سر إلى بلد كذا فادعهم، فإن استجابوا لك فأحسن فيهم السيرة، وابسط المعدلة، وإن عصوك فعظهم وحذّرهم عقاب المعصية، فإن أقاموا على الغواية أعلمتني ليأتيهم النّكير. فصار إليهم فمانعوه، ووعظهم فخالفوه، وأقام حينا مستبطئا ما أوعدتهم به، فقلت: إن أريناك ما وعدناهم من العقوبة أو عزلناك قبل أن نريك ذلك- فليس لك أن تستبطئنا، إنما عليك التّبليغ والعظة، وعلينا الجزاء والمكافأة.
وأما قوله: {فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} [النحل: 112].
وقوله: {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ} [الأحزاب: 10].